تدريب 600 شاب مصري للعمل في كبرى محطات توليد الطاقة في العالم

يتحدث السيد/أحمد السعدني-المدير الإقليمي للتعلم في سيمنس للطاقة لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، عن تجربة سيمنس للطاقة الهامة في تدريب 600 مهندس وفني مصري أصبحوا الآن مسئولين عن إدارة وتشغيل كبرى المحطات الغازية لتوليد الطاقة في العالم بنظام الدورة المركبة.

 

بالنسبة لي، أنظر للتعليم على أنه أكثر من مجرد وظيفة تقليدية. إنه شغف... شغفي بإطلاق القدرات والإمكانيات الكامنة في البشر، ومساعدتهم على التقدم وتحقيق التميز في حياتهم الوظيفية. بالنسبة لسيمنس للطاقةأيضًا، لم تكن إقامة محطات توليد الطاقة العملاقة في مصر مجرد مشروع، ولكنه شغف الشركة ورسالتها بتوفير الطاقة للبلاد ومساعدة مصر على النمو وتحقيق الازدهار الاقتصادي. إنّ هذا المشروع العملاق يجسد فعليًا مدى سهولة تنفيذ المشروعات العملاقة مهما كانت الصعوبات التي تواجهها، بشرط أن يتم التنفيذ اعتمادًا على الشغف وتحقيق الهدف من المشروع، مهما كانت التحديات.

 

عندما بدأت العمل في سيمنس للطاقة بمصر عام 2015، تم تعييني في منصب مدير التعلم في مشروع قومي كبير يتضمن إقامة ثلاث محطات غازية عملاقة لتوليد الطاقة بنظام الدورة المركبة في مصر، بهدف زيادة قدرات التوليد المحلية في قطاع الطاقة بحوالي 14.4 جيجاوات، أي ما يعادل 40% من قدرات التوليد التي كانت مصر تمتلكها وقتها. ويمثل ذلك زيادة هائلة في قدرات توليد الطاقة في مصر بصورة لا تساعد البلاد فقط على حل مشكلة الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، ولكنها ستجذب المزيد من الاستثمارات لدعم نمو الاقتصاد المحلي. لم تكن محطات الطاقة الثلاث الجديدة توصف فقط بأنها "الأكبر من نوعها في العالم"، ولكنها أيضًا الأسرع في اقامتها خلال زمن قياسي لم يتجاوز 2.5 سنة، وهو ما يعادل نصف الزمن المعتاد لإقامة محطات بهذا الحجم.

 

على الرغم من أنّ هذه المشروع واجه العديد من التحديات الصعبة فيما يتعلق بالموارد ووقت التنفيذ والموازنة والخدمات اللوجستية، إلا أنّ "العنصر البشري" كان من أكثر التحديات التي كانت تقف في طريق هذا المشروع من وجهة نظري. فكل محطة من المحطات الثلاث ستحتاج إلى 200 شخص (مصريين من العمال والفنيين) لتشغيل وصيانة كل محطة بصورة فنية لائقة، وهو ما يعني أنّ المحطات الثلاث ستحتاج إلى 600 شخص في المجمل، وهو رقم صغير نسبيًا مقارنة بملايين الشباب من الباحثين عن فرصة عمل. قد يكون ذلك ما كنت اتمناه أو على الأقل ما أفترض وجوده قبل البدء!

توظيف 600 شخص

Rبدأنا إجراءات التوظيف ووضع المعايير الخاصة بانتقاء أفضل العناصر، بحيث يكون لدى المتقدم لشغل الوظيفة المعرفة التقنية اللازمة، وكذلك المؤهل الدراسي الملائم وأساسيات اللغة الإنجليزية-أمر في غاية البساطة والوضوح. وعلى الرغم من ذلك، وعندما بدأت طلبات التوظف تنهال علينا وبدأنا الاختبارات الشخصية، وجدنا أنّ "أول دفعة من طالبي التوظف والتي تخطى عددها الآلاف" لم تتمكن من تلبية المتطلبات الأساسية، والهادفة لتوظيف وتدريب الدفعة الأولى من المتدربين والتي يبلغ قوامها 50 شخصًا فقط. حاولنا مرة أخرى، وتلقينا الآلاف والآلاف من المقابلات بمعدل 1000 مقابلة في الأسبوع، لتحقيق الهدف المتمثل في اختيار وتأهيل 50 متدرب كل شهر، ولكن مازلنا نواجه تحديًا في تحقيق ذلك.

 

لقد كنا نعلن عن الوظائف المتاحة لدينا على مدار عامين متتاليين وبصورة متكررة، وهي وظائف مغرية بمرتبات متميزة بالإضافة لدورات تدريبية عالية الجودة مع سيمنس للطاقةعلى مدار 6 أشهر تتم بين كل من مصر وألمانيا. ولكن على الرغم من كل ذلك، وعلى الرغم من الأعداد الكبيرة المتقدمة لشغل الوظائف، كان من الصعب اختيار وتوظيف الأشخاص الملائمين لشغل الوظائف المعروضة.

 

ففي بلد يعيش فيه أكثر من 90 مليون نسمة، وأكثر من نصف سكانه أعمارهم أقل من 29 عامًا، لم يكن في اعتقادي اختيار 600 شاب يمتلكون المؤهلات الأساسية لشغل الوظائف المطلوبة، يمثل تحديًا على الإطلاق، ولكنه في الواقع كان سوء تقدير منذ البداية.

في تلك المرحلة، لم يكن علينا سوى تخيل حجم الصعاب التي علينا تخطيها! فحوالي 1% فقط ممن تقدموا لشغل الوظائف كانوا ملائمين. فمن بين حوالي 1000 متقدم للوظائف، لم نتمكن من اختيار سوى 10 متقدمين ملائمين فقط. وبالتالي قررنا أن نخفض من سقف طموحنا وتوقعاتنا فيما يتعلق بالمؤهل الدراسي وأساسيات اللغة الإنجليزية، وهو ما ساهم في نجاح مهمتنا. وبالفعل تم اختيار أول دفعة تضم 50 متدرب مع بعض العجز البسيط في الأعداد، ولكنها كانت مجرد بداية يمكننا أن نبني عليها للقادم. أما بالنسبة للدفعات التالية، سار الأمر بنفس الطريقة، حيث بدأنا بعدد أقل من المخطط، مع استكمال المستهدف في فترات لاحقة. ونجحت الأمور على هذا المنوال حتى الآن.

 

ومن الحقائق الهامة التي يجب الإشارة إليها بخصوص سوق العمل المصري، هو أنّ المصريين يفخرون بعملهم في القطاع العام، فإذا كانت فرصة العمل موسومة بختم "وظيفة حكومية"، ستجد أنّ أعداد المتقدمين ستتجاوز الآلاف. وبالتالي مع وجود 600 فرصة عمل في "وزارة الكهرباء"، تلقينا أعدادًا هائلة من المتقدمين. هذا ما نطلق عليه "تأثير القُمع" أو ما يعني تحويل "الكم" إلى "كيف"

 

وبالإضافة لاحتياجنا للمعرفة التقنية بصورة أساسية في تلك الوظائف، لم يكن أغلب المتقدمين لديهم مهارات الاتصال أو المهارات اللغوية أو تقدير الذات أو حتى الدوافع الإيجابية، وهي حزمة هامة جدًا من المهارات الأساسية لا يمكن اغفال قيمتها في عالم اليوم.

المنهج التدريبي

لاحظنا تلك الفجوة الكبيرة في المهارات الأساسية التي نحتاج إليها، وبالتالي قمنا بتصميم برنامج تدريبي على مدار 6 أشهر تم تصميمه بحيث يركز على المهارات التقنية وغير التقنية، مع الاهتمام بصورة أكبر بعدة موضوعات مثل أخلاقيات العمل والاتصال والعمل الجماعي واللغة الإنجليزية وعلم النفس والسعادة وغيرها.

 

وقد جسد هذا البرنامج التدريبي ما يجب أن تكون عليه المناهج التدريبية التي تركز على تلبية الاحتياجات التدريبية الفعلية لدى المتدربين، حيث قمنا من خلال هذا البرنامج بوضع مزيج من الموضوعات التقنية وغير التقنية التي تتمتع بتناغمها مع بعضها البعض على مدار فترة التدريب.

 

لقد كان من الممكن أن نصمم برنامجًا تدريبيًا متخصصًا يتعلق بالجوانب الفنية لقطاع الطاقة فقط، وهو ما يعني تقليل الزمن الكلي للتدريب والتعقيدات المرتبطة به، ولكننا ندرك أنّ الجوانب السلوكية سيكون لها الأثر الأكبر في مساعدة المتدربين على استيعاب ومعرفة ما افتقدوه على مقاعد الدراسة من قبل. إنّ إعداد العقول لا يقل أهمية عن إعداد الأيدي لسوق العمل، إذ لم تعد المهارات السلوكية "أمرًا شيقًا" يمكن إضافته للبرامج التدريبية، ولكنّ أصبح إضافة المهارات الشخصية للمنهج التدريبي مع استخدام الأسلوب التطبيقي لجعله أكثر قبولًا وتشويقًا، أمرًا ضروريًا وأساسيًا كان له أثر كبير في برنامجنا. من ناحية أخرى، فإنّ كسر الملل الناتج عن تتابع الجلسات التدريبية التقنية من خلال وضع محاضرات وجلسات لتنمية المهارات الشخصية، أدى لنتائج تدريبية متميزة.

 

في الوقت نفسه، يُعد التعليم الضمني من الأمور الهامة أيضًا. فالسفر للخارج له تأثير كبير مثله مثل التدريب العملي في مصانع ومنشآت سيمنس للطاقةفي ألمانيا. إنّ السفر للخارج يتيح للمتدربين التعرض لثقافة مختلفة وتفتح عقولهم على آفاق جديدة. فهم يحصلون ضمنيًا على مهارات التواصل مع ثقافات أخرى، وهو الأمر الذي لم يعُد اختياريًا في عصر العولمة الذي نعيش فيه.

من 60000 إلى 600

واليوم يسعدني أن أعلن أننا لا نبعد كثيرًا عن تحقيق هدفنا المتمثل في توظيف 600 شخص. فأكثر من 550 مرشحًا متميزًا وقع عليهم الاختيار بالفعل وشاركوا في البرنامج التدريبي. إنه شعور مريح، إلا أنه جاء بعد مسيرة شاقة خاصة مع الأخذ في الاعتبار أن الاختيار وقع عليهم من بين أكثر من 50000 طلب توظف.

 

وبالعودة للوراء، ما زلت أتذكر اللحظة التي أدركنا فيها أننا على بُعد أيام من الثالث من أبريل 2016، وهو موعد استقبال الدفعة الأولى المؤلفة من 50 متدرب. فبعد أن قابلنا آلاف المتقدمين، وقع اختيارنا على 50 فقط منهم. 50 مرشح متميز، ولكننا على الرغم من ذلك مازلنا في حاجة للمزيد من الدفعات التدريبية التالية. ولكن على الرغم من الخوف مما يحمله لنا المستقبل، إلا أننا احتفلنا بأولى انتصاراتنا. ربما يبدو من غير المنطقي أن نحتفل مبكرًا مع بداية استقبال أول 50 متدرب فقط، ولكننا على أية حال احتفلنا بهذا الإنجاز الهام. لقد استمتعنا بهذا الإنجاز وكأن طائرتنا أقلعت بمحرك لا يعمل، بل وهبطت على المدرج بسلام. إنه شعور يستحق الاحتفال.

 

إننا في الواقع نمثل تجسيدًا لما نؤمن به وتجسيدًا لما نقدر على إنجازه. ولكن الإنجازات العظيمة تصاحبها دائمًا تحديات عظيمة. وعلى الرغم من ذلك، يمكننا تخطي كافة العقبات والتحديات إذا كنا نؤمن بما نقوم به... إذا كان لدينا الشغف للقيام به، وكنا نمتلك رسالة واضحة في تنفيذه.

 

وإذا تحدثنا بشكل أكثر خصوصية على مشروعنا، سيظل السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا واجهنا صعوبات وتحديات كبيرة في العثور على الكوادر التي نريدها في بلد ملئ بملايين الشباب؟ لماذا تمكن عدد قليل جدًا من امتلاك المهارات التي نبحث عنها من بين آلاف الشباب الذين تقدموا لشغل فرص العمل المعروضة؟

 

والإجابة على كل هذه الأسئلة، والتي توصلنا إليها بأصعب طريقة ممكنة، هي وبكل وضوح: "التعليم"

ما الذي ينبغي علينا القيام به لضمان جودة التعليم في مصر، وبشكل أكثر دقة جودة التعليم الفني والمهني في مصر؟ هذا هو الطريق الذي قررنا أن نسلكه. ففي المقالات القادمة سنتحدث بمزيد من التفاصيل عن التحديات الرئيسية التي تواجه قطاع التعليم الفني في مصر، وكذلك الحلول التي تخطط سيمنس للطاقةلتطبيقها في هذا المجال، وهو ما لا ينطبق فقط على مصر ولكن على كل الدول التي تعاني من نفس الظروف. كونوا معنا....

 

من الضروري لكي نعمل بصورة مستدامة في أي بلد من البلدان، أن نخلق قيم طويلة الأجل تفيد البشر في حياتهم. وحتى مع اهتمام الشركات بالأرباح والعوائد على استثماراتهم، فمن خلال خبرتي يُعد التعليم مجالًا متميزًا لإفادة البشر والشركات في نفس الوقت.